بُنِي الإسلام على أركان و ثانيها الصلاة. الصلاة ليست فرضا فحسب، بل يقال أيضا أنها عمود الدين. يتعلم أغلبية المسلمين الصلاة منذ الطفولة، ثم هناك منهم من يواصل إقامتها كامل حياته، و هناك من ينساها، يتركها أو لا يقيمها أبدا. لما نتجول بين المجتمعات الإسلامية، نرى كل الأنواع و الأشكال. و في هذا السياق، نسمع و نرى أيضا أن يُصنف الناس، أو أن يصنف المسلمون بعضهم البعض، بالمُصلِي و غير المصلي. كم من مرة سمعتها : هذا يصلي، و ذلك لا يصلي، و فلان ترك الصلاة، و إلخ…

و لكن ما معنى الصلاة ؟ لو كانت الصلاة بهذه الأهمية في الدين الإسلامي و مجتمعاته، فإن الإجابة عن هذا السؤال تصبح في قمة الأهمية، أليس كذلك ؟ أو قد ننتضر على الأقل أن تكون أغلبية كبيرة من شعوبنا المسلمة لديها فكرة واضحة في هذه المسألة.

الصلاة ليست حركات جسدية

لنفترض أن نصنع روبوتا أو إنسانا آليا و نبرمجه على التوجه نحو القبلة و القيام بحركات الركوع و السجود و تلاوة القرآن و الدعوات. فهل يمكننا أن نقول أن هذا الروبوت يصلي ؟ طبعا لا !

فإذا رأينا إنسانا أخذ سجادته ثم نظر إلى القبلة، أو ذهب إلى المسجد، وبدأ يركع ويسجد و يتلو القرآن، نقول أنه يصلي. فماذا نعني بالضبط بكلمة “يصلي” ؟

إذا كنا لا نستطيع أن نقول عن الروبوت أنه يصلي ولكننا نقول أن فلانا يصلي، أصبح من الواضح أننا بكلمة “يصلي” لا نعني تلك الحركات الجسدية. فماذا نعني إذا ؟ من المؤكد أننا نعني شيئا لا يستطيع الروبوت أن يقوم به ولكن الإنسان يستطيع القيام به.

ما الذي يُعرٌِف إقامة الصلاة ؟

يقال أن الصلاة هي صلة بين العبد و ربه. فكيف تقام هذه الصلة ؟ هل هي صلة مادية تحصل في مكان معين بتوقيت معين في إتجاه معين و بحركات جسدية معينة ؟ أم أنها صلة نفسية و روحانية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولا يمكن قياسها بقواعد الهندسة ؟ طبعا السيناريو الثاني قد يكون أقرب بكثير من الإجابة السليمة.

لنفترض أن إقامة هذه الصلة بين العبد وربه تسمى “الخشوع”، فما هو أهم في إقامة الصلاة : هل هي الحركات الجسدية أم الخشوع ؟ أو أن هذا لا يقوم دون الآخر ؟

للإجابة عن هذا السؤال، لنفترض أن زيد وعمر ذهبا إلى المسجد لإقامة الصلاة. كان زيد في ذلك اليوم مضطربا جدا لأنه يعاني من مشاكل إقتصادية كبيرة تحولت أيضا إلى مشاكل عائلية، فلما بدأ يركع ويسجد كانت تلك المشاكل تدور بقوة شديدة في ذهنه ولم يستطع طوال الصلاة أن يتخلص منها. إنتهت الصلاة و تفطن زيد بأنه قام بحركات روبوتية تعود عليها و لم يشعر بأية صلة بينه و بين خالقه.

في نفس الحين، كان قلب عمر يملؤه الخشوع والسكون. فهل يمكننا أن نقول أن زيد وعمر أقاما الصلاة ؟ هل يمكننا ان نقول أن عمر أقام الصلاة وأن زيد لم يقم الصلاة ؟ على أي أساس يمكننا ان نقول أن أحدهما صلى والآخر لم يصلي ؟ وعلى أي أساس يمكننا أن نقول أن كلاهما صلا ؟

فلنأخذ الآن مثالا أكثر راديكالية لمساعدتنا على حل هذه الأسئلة المحرجة. لنفترض أن قيس و سعيد جالسان يتناولان الشاي و الحديث في الحي. ثم سمعا أذان العصر من المسجد الذي كان قريبا منهما.

قيس كافر لكنه يذهب إلى المسجد و “يصلي” لأن ذلك يلمٌع صورته الإجتماعية و يساعده الكثير في عمله السياسي و الإقتصادي. قيس له علاقات كثيرة في البلدة، و له متجر لمواد البناء وحتى بعض الطموحات و المصالح السياسية التي يشتغل عليها. بالذهاب بانتظام إلى المسجد، يزيد قيس من فرصه في النجاح وكثيرا ما يغتنم فرصة وجوده في جو المسجد الهادي ليفكر في استراتيجياته الاقتصادية والسياسية بينما يركع جسده و يسجد، ثم يتظاهر بالخشوع والسكون والعبادة.

لما ذهب قيس إلى المسجد، بقي سعيد لوحده في الحي. سعيد مؤمن لكنه لا يذهب إلى المسجد ولا يَعرِف عليه أحد مظاهر التدين. واصل سعيد ترشف الشاي و اغتنم فرصة خلوته لتلاوة القرآن في صدره و بدء يشعر بإحساس عميق بصلته لخالقه الأعلى، فبدأ يُسبٌح و يتأمٌل في الكون و في مكانه فيه، و حمد الله على كل ما رزقه من روح و جسد و عقل، و جدد خضوعه إلى الله و إلى ما شاء القدر.

بينما كان سعيد في تأملاته الروحانية مر علي و خديجة على  بعد أمتار. ثم إلتفت علي لخديجة و قال لها : هل رأيت ؟ ذهب قيس يصلي و لكن سعيد كالعادة لم يصلي.

فماهو رأيكم فيما قاله علي لخديجة ؟ هل فعلا قيس صلى و سعيد لم يصلي ؟ من صلى و من لم يصلي و علي أساس يمكننا الإجابة عن هذا السؤال ؟ بل هل يحق لنا حتى بمعالجة سؤال كهذا ؟

خفاء الخشوع

إتفقنا على أن الصلاة ليست مجرد حركات جسدية و على أن الخشوع و إقامة تلك الصلة العميقة بين العبد وربه هي من المكونات الأساسية الصلاة إن لم تكن عمود الصلاة بذاتها.

من السهل على الجميع أن يروا من يحرك جسده و يتلو القرآن في إتجاه الكعبة الشريفة و من لا يقوم بذلك. و لكن كيف لنا أن نعلم أن المرء يصلي حقيقة أم لا ؟ هل لنا من وسيلة للتعرف على الإحساس الباطني لكل مسلم ؟ بل لماذا نريد حتى التعرف على ذلك الإحساس ؟ و إذا لا يمكننا التعرف على صدور الناس أو لا نرغب في تلك المعرفة، فكيف لنا أن نُصنّف الناس بهذا يصلي و هذا لا يصلي ؟ و ماهو المرغوب من وراء هذا التصنيف الشائع في مجتمعاتنا ؟

ألا يقال أن الله يعلم ما في الصدور ؟

فإذا إتفقنا على أن الخشوع أمر خفي علينا، و أنه عمود الصلاة، و أن الله يعلم ما في الصدور، أليس هو الله وحده الذي له أن يعلم من يصلي و من لا يصلي ؟

فكيف لبعض المسلمين، عن سوء نية أو عن جهل، أن يقيموا أنفسهم مكان الخالق و يدعون أنهم يعرفون من يصلي و من لا يصلي ؟

يمكننا فعلا أن نرتقي بصلواتنا و ديننا و ثقافتنا إلى مستويات تكون أكثر شرف حتى نحقق على المستوى الفردي مكونات العيش السعيد و النبيل، و على مستوى مجتمعاتنا شروط الحرية و الأخلاق و العدالة، و من هناك التقدم و الإزدهار.