هكذا ينعت المسلمون عصر ما قبل نشأة الإسلام. و تأتي كلمة الجاهلية من “جهل”، “يجهل” فهو “جاهل”. الجاهل هو إذا الذي لا يعرف، و في هذا السياق يُنسب هذا الوصف للعرب الذين عاشوا بدون أن يعلموا أن الله أحد لا شريك له و أن محمد رسوله. فإذا أردنا أن ننسج على ذلك المنوال فمن المنطقي أن نُصنّف كل الشعوب بالجهلة و كل العصور بالجاهلية، لأن كل الشعوب تجهل المستقبل كما لم يعرف العرب نبي الله قبل أن تبرُز نبوّته، ونحن الآن أيضاً في عصر الجاهلية بالنسبة إلى ما سيحدث في المستقبل.
و لكن ماذا نعرف نحن عن هاؤلاء “الجهلة” كما سمّيناهم ؟ ماذا يُدرّس في دروس التاريخ لتلاميذ البلدان العربية و المسلمة عن عصر الجاهلية فيما عدا أنهم كانوا يشركون بالله و يعبدون الأصنام ؟ فإذا إتفقنا بأن دراسة التاريخ مسألة في أشد الأهمية لتكوّن فكر الأشخاص و المجتمعات، فكيف نٓعْمد نحن الذين نعتبر أنفسنا من عصر “العلماء” على محْوٍ منسّق و ممنهج لتاريخ العرب ؟ فتقتصر الأطروحة التاريخية الرسمية على أن ما قبل الإسلام هو عصر الجاهلية لا أكثر و لا أقل، و أن الإسلام جاء لينير الناس و ليخرجهم من الظلمات، و تتحدث دروس التاريخ بعد ذلك على ما يسمى بالفتوحات الإسلامية شرقا و غربا، و شمالا و جنوبا، و على الخلافاء الراشدين، و على قادة الجيش الأبطال و على زيد أو عمر “رضي الله عنه” كما يقال… و يوصفُ الإسلام بأنه جلب النور و العدالة والمساواة و الرحمة لشعوب كانت تعيش في الظلام و الفساد و الكفر و الجهل.
السؤال الذي يجب هنا طرحه بكل جدّية هو التالي : هل هذه طريقة علمية سليمة و أخلاقية لدراسة و تدريس التاريخ أم هي أكثر قربا من عمل البروباڤندا المعتمدة ؟ أليس هذا الشكل في تعليم التاريخ تنطبق عليه بالضبط مقولة أن التاريخ يكتبه المتفوّقون ؟ و لكنه هنا يُكتب و يُدرّس ليس حتا بالقليل من الشك أو التواضع أو بأدنى مستوى من النقد الذاتي؛ لا بل نُعلّم الأطفال، قبل أن تتوفر لديهم قدرات فكرية تجعلهم يُحكِمون إخدام العقل في المعلومات التي يتلقونها، أن ما قبل الإسلام هو عصر الجاهلية و فقط (أين تُدفن الموؤودة و يُعبد الصنم و يُشرب الخمر)، وأن ليس هناك بعد الإسلام إلا الإسلام نفسه لأن الله بعث بمحمد كخاتم للأنبياء ليجعل من الإسلام خاتم الديانات. هذا بالنسبة إلى الماضي و المستقبل؛ أما بالنسبة إلى الحاضر فلا تجد في سياق التعليم الديني إلا القليل الظئيل عن اليهودية و المسيحية، و لا شيء بتاتا فيما يخص ديانات كبرى و عريقة كالبوذية والهندوسية و الكنفوسيانية الصينية إلى آخره…
يُنهي التلميذ العربي دراسته بالثانوية، و حتا بإمتياز في مادتي التاريخ و التربية الدينية، وهو لا يعرف شيئا عن ما كان مثلا يتداول من طقوس و عبادات في الكعبة المكرمة قبل ظهور الإسلام و لا يعرف شيئا عن الأصنام التي كانت موجودة حينذاك و ماهي رمزياتها، و لا يعرف شيئا عن عقيدة تلك الشعوب و تصورها للحياة و الموت و الإلاه و اليوم الآخر. بل إنه لا يسأل حتا نفسه هذه الأسئلة، و إلى اليوم، لأن تلك الشعوب هي تُعتبر من الجاهلية، و لا يمكن الإرتفاع بالعلم من قوم صُنّفوا على أنهم يجهلون. هل كان هؤلاء “الجهلة” يسجدون أمام الكعبة ؟ هل كانوا يسجدون أمام أصنام يعتبرونها تمثيلا لآلهة ؟ هل كانوا يصومون ؟ هل كانوا يُضحّون ببعض الأغنام أو الإبل أو البقر إلى ما كانوا يعتبرونه الآلهة ؟ هل كان لديهم إلاه فوق كل الآلهة ؟ هل كانوا يسمّونه بالعربية بإسم “الله” ؟ هل كانت لديهم كتبا مقدّسة و أين هي ؟ ماذا كانت نظرتهم للأخلاق و للعدالة و للسياسة ؟ كل هذه الأسئلة و أكثر لا يسألها التلميذ و لا يعرفها الأستاذ، و تبدوا حتى اليوم كاملة التفاهة و اللاجدوى في ذهن المسلم الذي يظن أنه يمكنه فهم الإسلام بمحو أصوله و جذوره و تاريخه.
و يذهب هذا الجهل بالناس إلى درجة أن الأغلبية الساحقة للمسلمين اليوم لا يعلمون حتى الأركان الرسمية لديانات أصحاب الكتاب من اليهود و المسيح. المسلمون لا يعرفون شيأ عن أخلاقيات البوذية و عن تفسيرها للحياة و ما بعد الموت، و لا عن الكنفوسيانية و تعاطيها مع المسائل المابعد الطبيعية (الميتافيزيقية) والسياسية. بل و الأغرب هو أن السنّة بأغلبيتهم الساحقة لا يعرفون عقائد الشيعة و تقاليدهم.
في النهاية، عندما نُزوّر التاريخ للأطفال في المدرسة و نُقسّمه إلى عصر الجاهلية و عصر العلم و النور، ونُسمّي إنتهاك الأعراض و إراقة الدم فتوحات، و نُقدّم قوانينا كتبها بعض البشر على أنها شريعة الله، و عندما نعيد الكَرّة منذ مئات السنين، يصبح المسلمون كما نراهم اليوم لا يفهمون شيئا من بعضهم البعض، يترامون بالسب و الشتم، كل يكفّر الآخر والكل يعرف الإسلام الصحيح. تراكم الكذب والتدليس و التسويق و لم يعد أحد بإمكانه إقناع آخر دون التشنج لإنعدام الحجّة، ثم التهديد، ثم السب، ثم الركل، ثم الإرهاب و القوة و البوليس و الجيش والسلاح و غلق الجوامع و سجن الناس و قتلهم، و كل هذا في عصر الإسلام و المسلمين. فالحمد لله أنّنا لم نعرف عصر الجاهلية ولم نعش في ظلماته.